الدينار التونسي: ذلك الرمز الوطني المنكوب!
سألني صديقي المتقاعد من إحدى المؤسسات السيادية في الدولة المعروفة بانضباطها وولائها المطلق للوطن: هل ما زلت تذكر في زمن الفوضى الذي نعيشه ما هي رموز السيادة الوطنية التي درسناها في مادة التربية الوطنية؟ قلت بلى، إنها الراية الوطنية، الحدود الوطنية والعُمْلة الوطنية.
وهل يمكننا اليوم اعتبار الدينار التونسي رمزا للسيادة الوطنية بعد أن أصبح بلا قيمة تُذْكَر أمام العملات الأخري، تساءل صديقي؟ قلت أَلَسْتَ أجدر مني بالإجابة على هذا السؤال لأنك قضيت 40 عاما من حياتك تعمل بالمؤسسة المؤتمنة على حماية السيادة الوطنية والذوْدِ عن رموزها؟
سكت صديقي برهة ثم أدخل يده إلى جيْبَ سترته وأخرج ورقة ناولني إياها دون أن ينبس بكلمة! فتحت الورقة فاذا هي كشف بمعاش تقاعده من المؤسسة التي كان يعمل بها. تفحصتها بكل تركيز وقلت له: وَضْعُكَ جيد مقارنة بعموم الناس العاملين في القطاع العمومي رغم أنك تستحق أفضل بالنظر إلى الخدمات التي قدمتها للدولة وللمجموعة الوطنية؟
نظر إليّ صديقي بامتعاض وقال بهدوءه المعهود: تعلم أنني إنسان قنوع ولا أطلب أبدا ما لا أستحق. لقد بدأت حياتي المهنية عام 1979 بعد عودتي إلى الوطن من الدراسة بالولايات المتحدة حيث كنت أتلقى من الدولة طيلة 4 سنوات منحة دراسية قدرُها 500 دولار أمريكي شهريا. وكان أول راتب تلقيته بعد أن باشرت العمل يبلغ 240 دينارا. كان سعرُ صرف الدولار الأمريكي آنذاك مقابل الدينار التونسي في حدود 400 مليم، أي أن قيمة راتبي بالعملة الأمريكية في بداية حياتي المهنية تناهز 600 دولار كانت تكفينا أنا وزوجتي الأمريكية وتلبي احتياجات الأسرة سيما وأن جهة عملي كانت توفر لنا سكنا محترما دون مقابل.
وبعد 40 عاما من العمل والسفر داخل الوطن وخارجه، ها انا أتقاضى راتبا تقاعديا قدره 900 دينارا، لكنه مقابل العملة الأمريكية لا يساوي اليوم إلا 300 دولارا. أي أن راتبي التقاعدي إرتفع بالدينار حوالي أربعة أضعاف مقارنة بالراتب الذي تقاضيته في بداية عملي لكنه، رغم ذلك، فإنه لا يظاهي بالعملة الأجنبية إلا نصف ذلك المبلغ ..ألا يبدو لك هذا الأمر صادما، سألني صديقي؟
هو فعلا صادم ومعيب، قلت له. لكن الواقعية تحتم علينا الإقرار بكل تجرد أن السياسات الإقتصادية والنقدية والتنموية التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة في بلادنا منذ الإستقلال لم تكن صائبة في معظمها، وبعضها كان جائرا ومستبدا من حيث أن الدولة إحتكرت كل شيئ وبسطت هيمنتها على القطاعات الإنتاجية الحيوية وفرضت قيودا وأعباء لا تُحصى على المبادرة الخاصة وبالغت في الإعتماد على التداين الخارجي وفي إثقال كاهل الناس بالأداءات الجبائية بذريعة توفير موارد مالية قارة للدولة، فتضخم القطاع العمومي دون أن يصبح قطاعا منتجا، لا بل إن العديد من المؤسسات العمومية أصبحت اليوم عبئا ثقيلا على المجموعة الوطنية، وانكمش القطاع الخاص إلا من كان مرتبطا بمنظومة الحكم أو مقربا من مراكز النفوذ، وانحرف العمل النقابي فأصبح الدفاع المشروع عن حقوق الشغالين دفاعا عن الفئوية القطاعية Corporatisme.
ولتفادي العراقيل البيرقراطية والإدارية المُنهِكة والأعباء المالية المشطة التي كبلت المبادرة الخاصة وحولت البلاد إلى "جحيم" جبائي، ظهر قطاع إقتصادي وتجاري موازٍ وازدهر حتى تجبّر، فتراجع الإقتصاد الوطني وتفشّى الفساد في العديد من دواليب الدولة، وزاد الطين بلة قيام ثورة اعتقد البعض انها ستخلصنا من كافة المعضلات التي نغصت حياتنا وأفسدت إدارتنا وكبلت اقتصادنا، فيسود العدل وتتحقق التنمية ويعم الرخاء على جميع شرائح المجتمع وكافة جهات البلاد...
لكن تبين سريعا أن الحلم الذي راود الناس تحول إلى كابوس وأن النظام السياسي الذي أفرزته الثورة فشل فشلا ذريعا في تغيير منظومة الحكم وفي إصلاح المنوال الإقتصادي السائد وبقيت دار لقمان على حالها. فلا عدالة تحققت، ولا تنمية أُنْجِزَتْ لا بل حتى الإستقرار الشكلي الذي كنا ننعم به في العهد السابق خوفا من بطش الحاكم تحول إلى فوضى وتجاذبات سياسية عقيمة لا تنتهي..في الأثناء، ازداد الفقراء فقرا والأثرياء ثراءً والفاسدون فسادا وتوارثت الحكومات المتعاقبة، والنخبة السياسية عموما، الخيبة والفشل والسمعة السيئة...
في مثل هذه الظروف كيف تريد الحفاظ على قيمة العملة الوطنية أمام العملات الأخرى وهل يمكن أن تكون لتلك العملة قيمة أمام هذا الأداء الإقتصادي والتنموي العقيم وفي غياب أي إرادة صادقة من أجل الإصلاح والتصحيح، سألتُ صديقي؟
لا تنس أنني تربيت على تحكيم المنطق العسكري في قراءة مجريات الأمور والأحداث، ردّ صديقي بشيئ من الحدة. وقد سألتك في بداية حديثنا عن رموز السيادة الوطنية فأجبتني أنها الراية والحدود والعملة الوطنية، وهي فعلا كذلك. وما دمنا اليوم نقبل بكل إذعان ومهانة بانزلاق عملتنا وانهيار قيمتها في الأسواق أمام العملات الأخري حتى أصبحت عملة بلا قيمة وبلا قدرة شرائية في الداخل والخارج، فلا غرابة أن لا نُمانع غدا في أن يتحول لون الراية الوطنية من الأحمر الساطع إلى الوردي الشاحب ومن الأبيض الناصع إلى الرمادي الباهت، وأن نقبل بتقليص الحدود الوطنية من 2570 كلم إلى النصف أو الثلث!
لقد تعلمت طوال حياتي أن الرموز الوطنية مقدسة وأن المساس بها قد يؤدي إلى إشعال حروب وفتن وتأجيج أزمات في المجتمع، وأنا لا أجد اليوم أي مبرر منطقي لبقاء الحكومات المتعاقبة مشلولة، لا تحرك ساكنا أمام الإنحدار المروع للعملة الوطنية.
أين رئيس الجمهورية؟ أليس هو المُؤْتمنُ الأول على حماية السيادة الوطنية والدفاع عن رموزها، أليست العملة الوطنية أحد تلك الرموز؟ وماذا فعلت الحكومات المتعاقبة ووزراءُها غير تقديم الوعود الخاوية وتصبير الناس بغد أفضل؟ وما الفائدة من وجود بنك مركزي إذا كان عاجزا عن توضيح الأسباب الحقيقية لانزلاق الدينار غير ترديد عموميات للإستهلاك الإعلامي مثل ضرورة العودة إلى العمل وزيادة الإنتاج وتحسين المناخ الإجتماعي... وكأنَّ الناس في حاجة إلى ترديد هذه البديهيات لتبرير الأمر الواقع المرير بفقدان عملتهم قيمتها أمام العملات الأخرى!
ألا تشعر بالمهانة عندما ترى أن الدينار لا يصرف اليوم بأكثر من 3 دراهم مغربية والحال أنه كان قبل سنوات قليلة يساوي 10 دراهم! إنني أتهمهم جميعا بالعجز والتقصير وانعدام الكفاءة، وأتهم بعض الأطراف الإقتصادية والسياسية الفاعلة في البلاد بالتواطئ مع أصحاب المصالح الضيقة والأقتصاد الموازي والمهربين من أجل التلاعب بالعملة الوطنية والدفع نحو المزيد من الإنزلاق؟ ألا تسمعهم يرددون أن سعر اليورو سيناهز 5 دنانير مع نهاية هذا العام؟ إنها كارثة وطنية مدمرة لكن لا أحد يحرك ساكنا للحيلولة دون وقوعها!
وماذا كنت ستفعل لو كنت مكان هؤلاء؟ هل لديك وصفة سحرية لإنقاذ العملة الوطنية؟ سألت صديقي بشيئ من الخبث لأنه عودني طوال علاقتنا الممتدة أكثر من 50 عاما على الحذر الشديد في التعامل مع الشأن الوطني والمجريات السياسية.
نظر إليّ بازدراء وابتسامة ساخرة وقال بعد صمت: أنا لست مكان هؤلاء وبكل تواضع لا أريد أن أكون مكان أحد منهم لأنني أنتمي إلى مدرسة شعارها البِرُّ بالوطن والكدُّ في العمل والإستقامة في السلوك. كما أنني لا أؤمن إطلاقا بالوصفات السحرية، وحتى إن وُجدت، فمن غير المنطقي أن تكون هناك وصفة سحرية لمعضلة وطنية متواصلة منذ أكثر من 30 عاما وفشلت الحكومات المتعاقبة في معالجتها ووقف نزيف العملة الوطنية سيما خلال ال 8 سنوات الماضية التي كانت كافية للإصلاح واحتواء الإنزلاق لو توفرت الإرادة.
إلى جانب ذلك، نحن اليوم في بلد مكبل الإرادة ومشلول القدرات إذ أننا في معظمنا، حكاما وشعبا، نتكلم أكثر مما نفعل ونصرخ أكثر مما نتأمل ونفكر، لا تآزر بيننا ولا تكاتف، لا صدق في القول ولا إخلاص في العمل، ولا يهمنا من هذا الوطن إلا ما نأخذه منه ونجنيه من غنائم.
إسأل شبابنا ومثقفينا وكادحينا وموظفينا ومستثمرينا وفلاحينا ورأس المال الوطني إن بقيَ ولم ينفذ بجلده نحو آفاق أرحب وأرحم عما أنجزته حكومات الثورة وبرلمان الثورة وأحزاب الثورة ودستور الثورة وهيئات الثورة، وإعلام الثورة... إسأل كل الذين نفذ صبرهم واستشرى اليأس والإحباط في نفوسهم بسبب الغلاء الفاحش والظلم الفاحش والعجز الفاحش والغباء الفاحش والخيارات العرجاء والحلول الترقيعية المستوحاة من صندوق النقد..كيف لشعب يشعر بالغبن والإحباط أن ينهض ببلد، أن يبني اقتصادا مزدهرا وأن يضمن لأطفاله مستقبلا أفضل من حاضرهم؟ إن العملة الوطنية ضحية كل هذا الخور، ولا يمكن لأي عملة أن تصمد وتحافظ على قيمتها وقدرتها الشرائية في مثل هذه الظروف العبثية...
تشخيصك للأوضاع دقيق وأشاطره تماما، قلت لصديقي، لكنك لم تقدم أي حل لمعضلة انزلاق العملة الوطنية.
الحل سياسي بالدرجة الأولى. مشكلتنا في هذه البلاد أننا لا ننظر سوى لأنفسنا ولا نرى إلا أنفسَنا. لا نكترث بما يجري حولنا ولا نقتدي بتجارب غيرنا. فعلى سبيل المثال، العملات الوطنية لدول الخليج العربية تُعتبر من أكثر العملات استقرارا في العالم رغم هشاشة الأنظمة السياسية التي تحكمها وفساد بعضها، لأن ارتباط عملات تلك الدول بأسعار صرف ثابتة مقابل العملة الأمريكية بالنظر إلى خصوصياتها كبلدان منتجة للطاقة، ساعدها في الحفاظ على استقرار اقتصادياتها و ضبط معدلات التضخم بالمقارنة مع المعدلات العالمية.
فمملكة البحرين ليست دولة غنية بالنفط وتعاني من حين لآخر من عدم استقرار سياسي واجتماعي، لكن الدينار البحريني مستقر وسعره ثابت في الأسواق وهو قابل للصرف والتحويل في كافة أسواق العالم!
أفليس بوسع السلطات العمومية في بلادنا ابتكار نموذج نقدي على أساس المقاربة الخليجية وتثبيت سعر صرف الدينار مقابل العملات الرئيسية على أساس سعر صرف دينار بداية عام 2010 لمدة تتراوح بين 5 و7 سنوات، يتم خلالها إصلاح النظام النقدي في إطار خطة إصلاح مالي واقتصادي شامل؟
أوَليْسَ من حقنا في هذا البلد، سيما ونحن مقبلون على استحقاقات إنتخابية حاسمة ومصيرية، أن نصبو إلى بلورة مشروع طموح لإنقاذ العملة الوطنية من الإضمحلال والنهوض بالإقتصاد الوطني وتفكيك ذلك الكم الهائل من القيود العقيمة الموروثة عن حكومات فاسدة ومستبدة منذ عهد مصطفى خزندار ومصطفى بن اسماعيل قبل 150 عاما ليس في المجال النقدي والجبائي فحسب؟
أليس من المعيب أن يصبح الشغل الشاغل للناس اليوم في بلادنا، رغم التحديات الجسيمة التي نواجهها على كافة الأصعدة، هو تسعيرة البيض والحليب وأن تتحكم الدولة في رقابنا إلى درجة أنها هي من يحدد سعر البيضة وعلبة الحليب في الأسواق؟ ثم أليس من المستغرب والمخزي أن تتدخل الدولة بثقلها لتحديد سعر البيضة وتتغاضي عن إنقاذ العملة الوطنية من الإنهيار و"التشليك"؟ تساءل صديقي!
أرجوك إلا البيض والحليب، هذه "مقدسات" لا يجب المساس بها، قلت له! دعنا الآن من كل هذا الغم وأخبرني هل صحيح ما قالته زوجتك أنك تنوي مرافقتها إلى الولايات المتحدة لقضاء عطلة نهاية السنة؟ نعم، قال صديقي وأفكر جديا في أن تكون العطلة هذه المرة "طوييييييــلة"!
محمود بوناب
تعليقك
Commentaires